اللهم صل على محمد و آل محمد و عجل فرج القائم
من كرامات الأمام الرضا (ع)
تكلّمي يا ابنتي
المريضة المعافاة: سميّة الرحماني. من مدينة مشهد. الحالة المرضيّة: إصابة بالخَرَس. تاريخ الشفاء كانون الثاني 1991
----------------------------------
ليلة مُقمرة مغمورة بضياء شفيف.. وسماء صافية موشَّحة بالنجوم. القمر يتوسّط السماء متلألئاً كما تتلامع صينيّة من فضّة صقيلة. مضى هزيع طويل من الليل، ودقّت الساعة الجداريّة العتيقة اثنتي عشرة دقّة.
تقلّبت سميّة في فراشها، وفتحت عينَيها السوداوَين الوسيعتين، وأخذت تنظر إلى أمّها التي ترقد على مقربة منها. أزاحت سميّة ملحفتها، وتسلّلت من فراشها على مهل، ثمّ سارت مارّةً قرب فراش أمّها بخفّة وحذر. خرجت من الغرفة وارتدت عباءتها، وفتحت باب الدار وخرجت إلى الزقاق.
قطعت الزقاق المظلم الطويل.. حتّى بلغت الشارع العامّ. ولمّا انعطفت من الزقاق إلى الشارع.. بدت أمامها عتبة الإمام الرضا عليه السّلام تتلألأ في وسط هالة من النور الذهبيّ الأخّاذ. دمعت عيناها وسالت دموعها على الخدَّين. إنّ هزّة داخليّة هي التي جعلتها تخشع من القلب خشوع المحبّة والإكبار والرجاء.
* * *
قبل الفجر.. أفاقت الأمّ من نومها، فافتقدت ابنتها من الفراش. استشاطت تبحث عنها بقلق، وراحت تجري إلى باحة الدار:
ـ سميّة.. سميّة!
ما من جواب. طافت بجميع الغرف ومرافق الدار، فلم تعثر لها على أثر. خرجت إلى الزقاق مضطربة فَزِعة. تطلّعت هنا وهناك، ثمّ لمّا لم تجدها راحت تطرق أبواب الجيران باباً باباً تسأل عن سميّة. الإجابات مخيِّبة للظن. يعني.. أين ذهبتْ ؟! تتساءل في نفسها هذا التساؤل، لكنها لم تَفُز بجواب. حاولت أن تتغلب على القلق:
ـ لابدّ أنّها ذهبت إلى مكان.. إلى بيت أحد من المعارف أو الأقرباء! لكنْ لماذا هكذا فجأة وبدون مقدّمات ؟! لماذا في هذا الوقت ؟!
خواطرها المضطربة لا تَدَعها تهدأ وتستريح. وها هم الجيران قد خرجوا معها يشاطرونها الهمّ، ويشاركونها في البحث. النساء يُواسِينها ويطيّبن خاطرها، والرجال يشدّون من عزمها ويقوّون في نفسها الرجاء. لكنّها لا تفتأ تفكّر بسميّة: أين هي الآن ؟
ابنتها مريضة. البارحة جلست عند فراشها.. تنظر إليها: تبكي وتدعو الله لها بالشفاء. سليمة كانت سميّة مِن قبلُ ومعافاة. لم تكن تتوقّع أنّ مجرّد وجع سنّ من أسنانها يجرّ على ابنتها وعليها كلّ هذا البلاء!
كانت سميّة قد استفاقت في إحدى الليالي تئنّ من وجع في أحدى الأسنان:
ـ سنّي يا ماما.. تَوجَعني. آه.. سنّي!
وفتحت فمها تُري أمَّها السنّ التي تؤلمها، ووضعت الأمّ شيئاً فوق السنّ، وقالت:
ـ هذه القرنفلة تسكّن الوجع.. سترتاحين.
بَيْد أنّ الألم لم يسكن. ظلّت تئنّ وتتلوّى إلى الصباح. وأخذتها إلى الطبيب، فلم تنتفع بالدواء. عشرة أيّام من العلاج.. دون جدوى. سميّة تبكي من الألم الذي لا يريد أن يتوقف أو يخفّ. غَدَت ضعيفة ناحلة لا تشتهي الطعام. ويوماً بعد يوم كان يتعسّر عليها الكلام. ولمّا استيقظَتْ من نومها في صبيحة أحد الأيّام تبيّنت الأمّ أنّ ابنتها غير قادرة على الكلام؛ لقد اعتُقِل لسانها تماماً وأمست خرساء!
ـ كلّميني يا ابنتي، قولي لأمّك شيئاً. صمتك يدمّرني. ما هذا الوجع الذي فعل بك هذا يا عزيزتي ؟! لماذا أنت ؟! ليت كلّ أوجاع العالم تأتي إليّ ولا أراك تبكين وتتعذّبين. كلّميني يا سميّة، قولي شيئاً. دعيني أسمع صوتك الحلو مرّة واحدة، فقط مرّة واحدة ناديني. لو تكلّمتِ مرّة واحدة فإنّي والله لا أطلب من الله شيئاً آخر.. أيَّ شيء.
لا فائدة. البنت لا تنطق بحرف. خرساء اللسان لا تتكلّم بغير الدموع. وماذا تستطيع الأمّ أن تفعل أكثر من البكاء ؟! لا الدواء نفع ولا الأطبّاء. كلّ الأطبّاء الذين عرضتها عليهم اتّفقوا على رأي واحد:
ـ لابدّ من عمليّة جراحيّة.
ـ كم تكلّف العمليّة ؟
ـ تقريباً (120) ألف تومان.
ترى.. أنّى لامرأة مستوحدة لا سند لها أن تهيّء هذا المبلغ الكبير ؟! معاناة جديدة تضاف إلى معاناتها بمرض ابنتها. ومهما يكن.. فإنّها أمّ، وسميّة هي ابنتها الوحيدة، وأملها الفرد الذي تحبّ الحياة من أجله، ولن تدّخر وسعاً لعمل كلّ ما تستطيع لخلاصها من هذه المحنة. وهكذا.. أعلنت عن بيع دار سكناها الصغيرة، لعلاج ابنتها.
في أوّل تلك الليلة.. فاتَحَت ابنتها بما عزمت عليه:
ـ أنا مضطرّة يا ابنتي، لابدّ من بيع الدار.. مع أنّها ذكرى المرحوم أبيك. ننتقل من هنا.. نستأجر بيتاً أصغر، وأُضاعف عملي لتأمين الإيجار والمعيشة. شفاؤك هو الأهمّ.
وتطلّعت إلى عينَي سميّة بحنان طافح، وهي تضيف:
ـ آه.. لو عاد إليك الكلام وسمعتُ صوتك لكان أحبّ إليّ من مال الدنيا كلّه. غداً آخذك إلى المستشفى للعمليّة. المهمّ سلامتك. هي أهمّ من كلّ شيء.
...
لكنّها حينما استيقظت قبيل الفجر لم تكن البنت في الدار. قالت إحدى النسوة:
ـ ربّما ذهبت إلى الحرم.
قالت الأمّ:
ـ صباح أمس أخذتها إلى الحرم، ربطتُها دخيلةً عند الإمام وطلبت منه شفاءها، وما رجعنا إلاّ العصر.
قالت المرأة نفسها:
ـ ربّما ذهبت مرّة ثانية.
وتدخّل زوج المرأة:
ـ اذهبنَ الآن إلى الحرم.. لا ضرر في ذلك، فإذا رجعتنّ ذهبتُ أنا إلى مخفر الشرطة لإبلاغهم.
* * *
تهبّ نسمة نقيّة من نسمات الفجر، ويرتفع من المئذنة نداء الأذان. رجال عند حوض الماء في وسط الصحن الكبير يتوضّأون. تنتظم صفوف صلاة الجماعة، وسميّة جالسة قرب النافذة الفولاذية شابكةً أصابع كفّيها الصغيرتين في مشبّك النافذة.
ـ الله أكبر.
صوت مُنبِّه الصلاة يتجاوب في أرجاء الصحن. سِرب من الحمائم يخفق طائراً فوق صفوف المصلّين، ويعرُجَ نحو سماء الفجر الصافية. شعرَت البنت بالنعاس وثقل جفناها، فوضعت رأسها على حافّة النافذة، وانزلقت على مهل إلى النوم:
رجل مديد القامة شقّ جموع المصلّين متوجّهاً إليها، حتّى إذا بلغ قرب النافذة حاذى سميّة وجلس قربها. مدّ الرجل يده فمسح بها على رأسها، ونادها بصوت مُشبَع بالرأفة والحنان. أفاقت من النوم.. وأخذت تنظر مندهشة إلى الرجل الرؤوف. ثيابه خُضر، لها أكمام برتقاليّة اللون طويلة. محيّاه الوضيء يشعّ بالنور. ما عرفته البنت. حاولت أن تتذكّر.. فلم تتعرّف عليه. ترى.. مَن يكون ؟! أرادت أن تسأله فما استطاعت. ما استطاعت أن تتكلّم. خاطبها الرجل ذو الصوت المشبَع بالحنان:
ـ تكلّمي يا ابنتي.
أشارت إلى لسانها لتقول إنّها لا تقدر على الكلام. ابتسم الرجل ابتسامة عذبة وقال:
ـ تقدرين.. تكلّمي.
حاولتْ أن تتكلّم، فما واتَتْها قدرتها على النطق. أخرج الرجل يده من كمّه.. ولامست كفّه ذقن البنت إلى حنجرتها، وقال:
ـ الآن تقدرين.. تكلّمي.
وضعت يدها على ذقنها وفمها. وأحسّت أنّ شيئاً قد خرج من حنجرتها، شيئاً كان يمنعها من الكلام. وشعرت أنّ الأوجاع قد اندفعت من جسمها إلى خارجه،
فانحلّت عقدة اللسان وغدت قادرة على النطق.. وانطلقت من فمها كلمات:
ـ أشكرك.. يا مولاي.
ثمّ لم ترَ الرجل. رأت أمّها واقفة أمامها تنظر إليها، وتناهَتْ إلى أذنها كلمات روحيّة لدعاء يُقرأ في هذا الفجر. صاحت بلا اختيار:
ـ ماما...!
فتحت الأمّ ذراعيها واحتضنت البنت:
ـ تكلّمتِ يا ماما ؟! ناديتني يا حبيبة أمّها ؟! إلهي.. ماذا أسمع ؟! ابنتي كلّمتْني! لا أريد بعد هذا من الدنيا أيّ شيء. شكراً لك يا إلهي.
انخرطت الأمّ تبكي وتبكي، وراحت تقبّل ابنتها وتشمّها. واه.. ما هذا العطر العجيب الذي تشمّه في البنت ؟! عطر ماء الورد، عطر الورد الجوري، عطر الآس، عطر الرضا صلوات الله عليه!
-------------------------------------